Friday, November 13, 2009

دموع أم

حدث هذا فى نهاية العقد السابع من القرن الماضى، أى منذ حوالى الثلاثون عاما، كنت وقتها فى مرحلة التكليف بعد التخرج من كلية الطب وقضاء سنة الإمتياز (التدريب)، كلفت بالعمل فى إحدى قرى محافظة المنوفية " التى يوجد بها وحدة صحية ريفية، حيث كنت بالطبع الطبيب الوحيد بها، ومعى مجموعة من العاملين، ثلاث ممرضات، ثلاث تومرجيات، فنى مختبر واثنين من الفراشين.
فى الأيام الأولى لتوزيعنا على المحافظة، تم تدريبنا سريعا على التعامل مع الحالات الطارئة، كما تم تعريفنا بشكل أكثر تفصيلا على كيفية التعامل مع الموتى، حيث قام الدكتور "سعيد" وكيل المديرية بنفسه بتعليمنا كيفية الكشف على الجثة، والتسجيل فى دفتر الثلاث خانات ودفتر الجرافيك، وإصدار التصريح بالدفن وكتابة شهادة الوفاة.منذ اليوم الأول لإستلام العمل بالوحدة الصحية بدأت عملية ترويضى من قبل العاملين بها، وتعليمى كيفية الإحتيال على القانون، إبتداءا من التزويغ من العمل، مرورا بالكشف الخصوصى، وليس إنتهاءا بتسوية المستهلك من الأدوية، وإكتشفت من خلال هذه العمليات كيف أن هذا النوع من العمل بكل شروطه ومتطلباته غول حقيقى لا يرحم، فإما ترضخ لقوانينه، وإما تعرّض نفسك وحياتك للخطر، وبمنتهى البساطة قد تجد نفسك فى السجن.
وكان لعلاقتى الوثيقة بعم "عبد الرحمن" فرّاش الوحدة أثر كبير فى تعليمى أسرار العمل، وفى تجنيبى إن لم يكن حمايتى من الوقوع فى كثير من الأخطاء القاتلة، كان هذا الرجل بنظارته السميكة، وطاقيته المزّهرة بصفة مستمرة، وجلابيته الإفرنجى البيضاء، ووجهه البشوش المبتسم ، يعطيك دائما الإحساس بالثقة والطمأنينة.
فى تلك الأيام إستطعت أن أقيم علاقات حقيقية مع كثير من أهل القرية البسطاء، الذين ساعدونى بشكل حقيقى على تحمل هذه الحياة، خصوصا واننى كنت فى هذه الأيام حديث الزواج، وكنت أقيم بالأسكندرية، حيث زوجتى وأصدقائى وحياتى الثقافية والسياسية، غير أن الذى كان يقنن علاقتى بأهل القرية فى الحقيقة كان عم "عبد الرحمن"، على الأقل بحكم معرفته الطويلة بهم، خاصة أنه كان يعمل حلاق صحة للقرية قبل تعيينه فى الوحدة الصحية، هذا الحلاّق الذى يقوم بختان الأطفال، وإعطاء الحقن، وتطبيب الجروح، وعلاج الأمراض البسيطة، فيما يرقى الى ما يقوم به طبيب تلك الأيام.
بسرعة أصبح هذا الرجل مستشارى الأول ومصدر ثقتى وخاصة فيما يتعلق بعلاقتى بالآخرين، هو الذى يشير على بكيفية التصرف فى معظم المشاكل وكيف أنظم "دفتر الأحوال" حتى لا أقع فى أخطاء قانونية، وحتى حالات الوفاة التى تحدث بالقرية كان هو الذى يحدد لى من هى الحالة التى أذهب للكشف عليها ومعاينتها فقد تكون بها شبهة ما، وتلك المعروفة التى لا تحتاج الى معاينة.
فى أحد الأيام وفى حوالى الساعة الثالثة عصرا وبينما كنت أستعد لركوب الأتوبيس المحلى ذاهبا الى الأسكندرية، طرق اذنى صيحات نسائية حادة (صوات)، وهذه الأصوات فى الغالب تعنى حدوث وفاة، تماما كم تعنى الزغاريد حدوث زواج، مما دعانى الى التريّث والعدول عن ركوب الباص، والعودة أدراجى الى الوحدة الصحية، حيث التقانى عم "عبد الرحمن" بهدوئه المعتاد، وأخبرنى أن المتوفى شاب يتيم فى مقتبل العمر، وأنه من الضرورى أن أعاين الجثة.
ذهبت الى الإستراحة فى إنتظار إستدعائى، وبعد قليل حضر غفير من الدوار ومعه فلاح من أقرباء المتوفى ليطلبا منى "تصريح دفن"، واستعجلانى حتى يمكن الدفن فى نور النهار، أخبرتهما اننى سأقوم بإرتداء ملابسى واللحاق بهم، بسرعة كان عم "عبد الرحمن" معى فى طريقنا الى بيت المتوفى، طوال الطريق لم نتبادل أى حديث.
كان المنزل عبارة عن بيت طينى متهالك، أسرع الحشد فى توسيع مكان لمرورى الى الداخل، أجلّسونى فى الحجرة الخارجية (المندرة) على كرسى خيزران قديم وقذر، بينما جلس الجميع على الأرض، أسرع أحدهم فى إحضار الشاى، بينما صمّم الكثيرون أن آخذ منهم سجائر، تملكنى إحساس داخلى أن هناك شيئ يتم تدبيره، خاصة عندما لمحت من فتحة الباب وعبر الفناء الداخلى أنهم ينقلون الجثة من غرفة الى أخرى.
كان فكرى مشغولا بمسألة السفر الى الأسكندرية، لذا كان الوقت يمر ثقيلا، بدأ الفلاحين يهمهمون بأحاديث جانبية عرفت أنها رسائل موجهه الى، المرحوم استراح من الدنيا والمرض، داخ على الأطبا، مسكينة أمه صرفت عليه اللى وراها واللى قدامها، ويتكرر هذا الكلام كإسطوانة مشروخة، أحسست بالضيق والملل، فصحت بصوت حاسم : هى أيه الحكاية، إنتوا جايبينى أقعد أتسامر معاكو والا أيه، حاول أحدهم بلؤم أن يثنينى عن عملية الكشف على الجثة، بحجة أن المرحوم كان مريضا، ومافيش داعى لتعبى.
حسمت الأمر بالنهوض واقفا والتوجه مباشرة الى الغرفة التى بها الجثة، إستحضرت من الذاكرة كل التعليمات التى علموها لنا، يجب ان يكون الضوء داخل الغرفة ساطعا، لا تسمح لأحد بالتواجد معك أثناء الكشف الاّ شخص واحد، إمرأة إذا كانت المتوفاة أنثى، وذكرا إذا كان رجلا، إحرص على أن تجرد الجثة من جميع الملابس ودقق فى كل جزأ منها، وإستحضرت كل خبرتى وما درسته فى هذا الشأن.
بعد تجريدى للجثة من الأسمال التى فوقها، ظهر لى لون الجسد وقد إكتسى زرقة لا تخطؤها عين، إذن هو السم ولا شيئ غيره، تعمدت الا يبدو على وجهى أى إنطباع، مددت يدى لأعيد الغطاء على الجسد المسجى، وأسرعت الخطى خارجا من باب الدار، وفى أعقابى عم"عبد الرحمن"، وسرعان ما لحقنى من كانوا فى المندرة ،أحاطوا بى متسائلين:- هو فيه أيه يا دكتور، ليه ماكتبتش تصريح الدفن، تعللت بأننى نسيت الدفتر فى الوحدة الصحية، وطلبت منهم أن يرسلوا أحدا لأخذه منى هناك، وواصلت سيرى مسرعا.
فى الطريق حكيت شكوكى لعم عبد الرحمن، لم يعلق وأيّدنى فى موقفى، ما إن عبرت الجسر المؤدى الى الوحدة حتى كان شاب صغير ينتظرنى عند البوابة على عجلة، عرفت أنه حضر لإستلام التصريح، دخلت الى مكتبى وهذا الشاب فى أعقابى، ما إن جلست على الكرسى وأحسست بالأمان حتى صحت فيه، موجها السباب لكل هؤلاء الفلاحين الملاعين الذين يريدون توريطى، وأننى سوف أبلغ النيابة والطبيب الشرعى للتحقيق فى حادثة القتل.
كنت أرغب فى إيصال هذه المعلومة للجميع، فى إنتظار ردود الأفعال قبل إتخاذ قرار التبليغ، كان قرارى نهائيا ولكنى كنت فى حاجة فقط لتفسيره للآخرين الذين أعيش بينهم، وتجمعنى بالكثير منهم صداقات عميقة،،، ولم يطل إنتظارى طويلا.
سرعان ما أبلغنى عم عبد الرحمن أن العمدة ومعه مجموعة كبيرة من الأعيان يقفون على البوابة حتى أأذن لهم بالدخول، أسرعت خارجا لأفتح لهم بنفسى مرحبا بهم فى السكن المخصص لى، وما أن جلسوا حتى بادر العمدة بالحديث معتذرا لى عما حدث، وأنه لم يكن مقصودا، القصة أن هذا الشاب التعيس كان يعمل باليومية فى مقاومة دودة القطن، وأنه بعد الإنتهاء من مرحلة المقاومة اليدوية يتم بدء المقاومة الكيمائية بالمبيدات، وكان الفقيد يقوم برش المبيد، ودخلت كمية منه بطريق الخطأ الى فمه، ورغم المحاولات التى أجريت لإنقاذه عن طريق تقييأه وشربه للبن الاّ أن قدر الله كان أسرع.
وإستمر العمدة فى الحديث دون أن أقاطعه، معتبرا أن ما حدث قضاء وقدر، وأن الولد غلبان ويتيم، وأنه إذا جرى تحقيق من قبل المسؤولين سيجازى أناس أبرياء مثل مهندس الجمعية الزراعية، وخولى الأنفار وآخرين، وبعد إنتهاء العمدة من حديثه تكلمت، قلت أنه كان يجب مصارحتى بالحقيقة منذ البداية دون محاولة خداعى، وأن مثل هذه الموضوعات لا يمكن عدم الإبلاغ عنها لأنها قد تسبب ضررا لا يمكن تعويضه بالنسبة لوضعى ومستقبلى الوظيفى، وانتهى اللقاء بعدم الإتفاق لكن إحتفظ كل طرف بإحترام الطرف الآخر.
بعد أن ودعتهم الى البوابة كما إستقبلتهم، وبينما أستدير عائدا فى الظلام، لمحت كتلة سوداء تتحرك ببطأ نحو البوابة، تبينت فيها إمرأة عجوزا، تمهلت قليلا وعدت أدراجى لأعرف ما الخبر، مدّت يدها من خلال الباب لتقبض على يدى بقوة، بوجه مغضّن وعينين غائرتين نظرت الى، وبصوت واهن مرتعش بدأت الكلام، أنا يابنى أم المرحوم، من يوم ما مات أبوه وهو حتة لحمة حمرا لم يبق لى فى الحياة غيرة، تصدق اننى كنت حتى الآن أقوم بتحميمه وتلبيسه، ولا ينام الاّ فى حضنى رغم أنه أصبح رجلا، أرجوك يابنى، أبوس إيديك مش عاوزة ابنى يتشرّح.
وبقوة لا أعرف من أين أتتها جذبت يدى بعنف لتقبلها، أحسست بدموعها على ظهر كفى، لم أستطع المقاومة، مسحت دموعى بظهر يدى لتختلط بدموعها فى مشهد درامي شديد القسوة، وشعرت بصعوبة بالغة، وعجز كامل عن اتخاذ موقف.
تركتها عند الباب وأسرعت لألحق بعم عبد الرحمن فى الداخل ليحل لى هذه المعضلة، شرحت له اننى لا أريد التبليغ لكننى أخشى العاقبة، صمت طويلا ثم رفع رأسه قائلا:- خلاص خلاص يا دكتور ولا يهمك، خليهم يدفنوا من غير تصريح، ولا كأنك عرفت خبر، حدّها أيه إذا إنكشف الموضوع فى أى يوم، يدفعواغرامة دفن بدون تصريح.

Wednesday, November 11, 2009

لماذا تطالب الحكومة المصرية بعودة الآثار المسروقة ولا تطالب بعودة رفات عبد الله النديم ؟




الموّال
..
يا لولا دقة إيديكى ما انطرَق بابى

طول عمرى عارى البدن.. وإنتى جلبابى
.
ياللى سهرتى الليالى يونّسِك صوتى



متونِّسة بحسّ مين يا مصر فى غيابى؟
.......
أدباتى أراجوز نديم أهلى وخلانى

زجّال مهرِّج مركّب صوتى فى لسانى



وصحيت لقيتنى اعرفك وإنتى عارفانى



جرّانى من موكب الضايعين وحطانى



على أعلى منبر يهزِّك صوتى ولسانى


ياللى فطمتى النديم ردّيه صغير السنّ

بسكّت الجرح يسكت ينطق التانى

الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى
■ ■ ■


أثارت وزارتى الثقافة والخارجية المصريتين جلبة واسعة حول ضرورة اعادة بعض الآثار التى تم سرقتها من قبل بعض لصوص الآثار والتى تم عرضها بمتحف اللوفر فى باريس، وصرح زاهى حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بوقف التعاون مع متحف اللوفر حتى عودة الآثار المسروقة، ووقف اعمال بعثة اللوفر فى مصر، وصدر بيان عن متحف اللوفر يعلن فيه أنه بصدد اعادة هذه الآثار।
إن قصة سرقة الآثار المصرية قديمة ومكررة، منذ زمن عهود الفراعنة وحتى الآن، وقصص لصوص المقابر قديمة قدم الفراعنة، ولكن الطريف هو اهتمام الفاتحين العرب بالإستيلاء على ما تحتويه هذه المقابر الفرعونية، ومنها اصدار عمرو بن العاص اول والى على مصر فى عهد عمر بن الخطاب مرسوما بمعاقبة اى مصرى يخفى كنزا أو "خبيئة" مما توجد فى باطن الأرض، وتسليمها له، بل الأطرف ما قام به الخليفة المأمون بن هارون الرشيد على الرغم من عظم ثراء الدولة العباسية فى هذا الزمن، من استقدام عمال مدربين لإحداث فتحة فى هرم خوفو بقصد الحصول على كنوز الفرعون الموجودة به، هذه الفتحة التى ما تزال توجد وتستخدم حتى الآن باسم فتحة المأمون.
ولكن النهب الأكبر والمنظم تم فى القرن التاسع عشر، وخاصة بعد صدور كتاب "وصف مصر" بواسطة علماء الحملة الفرنسية، حيث بدأ اهتمام الغرب المكثف بالآثار المصرية، وبدأ المغامرون والأفاقون والتجار فى أكبر عملية نهب منظم لهذه الآثار تحت سمع وبصر الحكومات المتعاقبة منذ حكم محمد على وحتى الآن، ويجادل البعض بأن بقاء هذه الآثار فى متاحف العالم المختلفة مفيد من حيث أن الملايين يشاهدونها ليدركوا أهمية هذه الآثار وعظمة وتفوق تاريخنا الغابر وأنها أفضل وسيلة لجذب السائحين لزيارة مصر، ولكن هذا لا ينفى أهمية العمل على إسترداد هذه التحف الأثرية الى بلادنا للعرض فى متاحفها الأصلية ويمكن عرض نماذج منها بشكل منظم فى مختلف البلدان، ولعل وجود المسلات المصرية شامخة فى أهم العواصم العالمية دليلا على هذه العظمة، وعلينا العمل بإستمرار على إعادة هذه الآثار الى مصر وعلى رأسها رأس نفرتيتى المعروضة فى متحف برلين وحجر رشيد القابع فى متحف لندن.
هذه القضية بالرغم من أهميتها لا تنفى قضية أخرى مهمة وهى السعى لحث الحكومة المصرية على المطالبة بعودة رفات النديم ليدفن فى أرض مصر مسقط رأسه والتى أفنى عمره دفاعا عنها وفى سبيل تحررها ونهضتها.
ولد عبد الله النديم بقرية الطيبة بمحافظة الشرقية عام 1845 وتربى وترعرع بمدينة الأسكندرية التى إنتقل اليها والده للعمل بترسانتها حيث كان يعمل نجارا، وقد لمح ابوه فيه علامات النبوغ فألحقه بمسجد ابراهيم بالأسكندرية ليتلقى العلوم الدينية ولكن اهتمام الفتى بالأدب جعله يتجه الى كتابة الشعر والزجل واهمال الدراسة الدينية ليتحول بعدها الى دراسة التلغراف هذا الوافد الجديد وذلك ليكتسب صنعة يتعيش منها، ثم عمل فترة فى مكتب للتلغراف بمدينة بنها بعدها انتقل للعمل فى قصر الوالدة باشا أم الخديوى إسماعيل، حيث اعطاه وجوده فى القاهرة الفرصة ليتعرف برجالات الأدب والفن والثقافة ولكن روحه المتمردة على الوظيفة سرعان ما أدت به الى الإصطدام بالرجل القوى فى القصر "خليل أغا" و أدى ذلك الى فصله من وظيفته، فيذهب الى المنصورة ليعمل فى التجارة، ولا يستقر بها طويلا حيث يتنقل بين عدة مدن فى الدلتا ليستقر به المقام أخيرا بالأسكندرية مرة أخرى فى عام1876 إبان صعود الحركة الوطنية لينخرط فى أتونها وينضم الى منظمة وطنية سرية متطرفة عرفت بإسم "مصر الفتاة" تطرح مشروعا للإصلاح الوطنى والدستورى، وينشط فى الكتابة فى الصحف التى بدأت فى الإنتشار فى عهد الخديوى إسماعيل داعيا الى تحرير الارادة المصرية من ربقة النفوذ الأجنبى، ويشارك فى تأسيس "الجمعية الخيرية الإسلامية" ويتولى إدارة مدرستها بالأسكندرية وينشأ حركة مسرحية بالمدرسة ويقوم بتأليف وعرض العديد من المسرحيات منها مسرحيته "الوطن" ويساهم فى تأسيس الحزب الوطنى الذى سيقود حركة الكفاح المصرية خلال العقود المقبلة.
وفى صيف سنة 1881 أصدر الرجل صحيفة أسبوعية أسماها " التتكيت والتبكيت " انتهجت خطا وطنياً واضحاً وأسلوباً أدبياً ساخراً وكان عبدالله النديم مهموماً فى صحفيته بقضية وحدة الوطن واستنهاض همة أبناءه للارتفاع بشأن البلاد وقد تواكب صدور الصحيفة مع أحداث الثورة العرابية فكان من الطبيعى أن ينضم عبدالله النديم إلى صفوف الثورة العرابية ويساند أهدافها الوطنية وقد وجد العرابيون فيه سنداً لهم بكتاباته الوطنية الحماسية وانتقل النديم إلى القاهرة ليكون فى قلب الأحداث والتقى بأحمد عرابى زعيم الثورة حيث طلب منه أن تكون صحيفته لسان حال الثورة بشرط أن يغير اسمها إلى اسم أكثر وقارا يلائم عقلية عرابى العسكرية المحافظة وأصدر عبدالله النديم صحيفة " الطائف " من القاهرة لتحل محل " التنكيب والتبكيت " ولتصبح لسان حال الثورة العرابية وخلال أسابيع قليلة أضحت الطائف أهم الصحف المصرية على الإطلاق.
وخلال الثورة العرابية أو كما يسميها العوام "هوجة عرابى" برز إسم النديم كخطيب للثورة، يلعب الدور الأبرز فى تحريك مشاعر الجماهير والجنود، ويلف البلاد طولها بعرضها محركا ومهيجا وخطيبا لها، والمعبر الأول عن أفكارها.
وبعد انكسار عرابى وفشل الثورة هرب النديم هائما فى قرى مصر وصقوعها متخفيا فى عدة شخصيات يحتمى بالبسطاء من أبناء هذا الشعب فى قصة هروب ملحمية طويلة، لمدة تسع سنوات كاملة قضاها بين أحضان الشعب الذى حماه بالرغم من رصد قوات الإحتلال مكافأة ضخمة (عشرة الآف جنيه ) لمن يدلى بمعلومات تؤدى الى القبض عليه، هذه القصة التى سجلها الكاتب العبقرى للراحل "ابو المعاطى أبو النجا" فى روايته الفريدة العودة الى المنفى، لينتهى به المطاف فى طنطا ويتم القبض عليه وعرضه على وكيل نيابة وطنى هو الشاب وقتها "قاسم أمين" الذى يعانقه ويقبله فى مشهد من أروع مشاهد الوطنية المصرية.
أحب النديم الشعب فأحبه الشعب، وحماه بنور العين حتى أن الكثيرين ممن التقوا بالنديم في تلك الفترة وعرفوه ترفعوا عن الصغائر، ولم يبلغوا عنه، بل ساعدوه على قدر الإمكان، بل أكثر من هذا كان بعض المسئولين في جهاز البوليس يتسترون على النديم إيمانًا بالثورة وحبًا في النديم كإنسان أيضا، فمأمور مركز السنطة يقابل النديم وجهًا لوجه ولا يقبض عليه مخاطرا بوظيفته كمأمور، بل ويمنحه مالا من جيبه ليساعده في هروبه، وكاتب مركز السنطة أيضًا،- وكان النديم مختفيًا في قرية الجميزة مركز السنطة- يعرف أين يوجد النديم فيكتب إليه أبياتاً من الشعر تقول
ولقد نذرت إذا لقيتك سالما لأقبلن مواطئ الأقـــدام
ولأثنين على سجاياك التي حثت على التحرير والإقدام
وبعد القبض على النديم فى طنطا أمر الخديوى توفيق بالعفو عنه لإنقضاء العقوبة ونفاه الى عكا بفلسطين وبعد تولى الخديوى عباس حلمى الثانى الحكم عفا عنه فعاد الى مصر واصدر صحيفة "الاستاذ" ذات الروح الوطنية مما أوغر عليه صدر اللورد كرومر المعتمد البريطانى فيؤمر بنفيه الى الأستانة ، وهناك يواصل نضاله الوطنى ويصاب بمرض السل ليموت وحيدا ويدفن هناك.
تلك الرحلة الطويلة لرائد فذ من رواد الحركة الوطنية المصرية وهب حياته وروحه حتى آخر رمق فى حب هذه الأرض والدفاع عنها ضد سيطرة الأجنبى ورأس المال عليها.
وأخيرا أليس من حق مصر أن تطالب بعودة رفات النديم ليدفن فى أحضان هذا الوطن الذى أعطاه حبه وحياته دفاعا عنه، فى إعتقادى أن حكومة السيد أردوغان لن تمانع فى عودة رفات هذا البطل ليعاد دفنه فى حفل شعبى ورسمى يليق به، أم أنها فقط تطالب بعودة الآثار المسروقة وتنسى تاريخ واحد من أبطال مصر العظام القائل:

أهل البنوكا والأطيان
صاروا على الأعيان أعيان
وابن البلد ماشي عريان
ممعاه ولا حق الدخان